التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن الفتنة الطائفية في إمارة جبل لبنان 1841-1861م؟
لم تكن مساحة جبل لبنان كبيرة؛ فهو يُمثِّل الثلث الأوسط من لبنان الحديث، ومع ذلك مثَّلت إدارته صعوبةً تاريخيَّةً ملموسة، والسرُّ قد يرجع من جانبٍ إلى طبيعته الجبليَّة الصعبة، ولكن من جانبٍ أهم إلى التنوُّع الطائفي الكبير في سكانه، وخاصَّةً أن جانبًا كبيرًا منهم من الدروز والنصارى الموارنة[1]، ممَّا يُعطيه خصوصيَّةً عن بقيَّة أقاليم الدولة العثمانية. يزيد بالطبع من حجم المشكلة تواجد المسلمين -سُنَّة وشيعة- في المناطق المحيطة بالجبل شمالًا وجنوبًا، ممَّا يجعل هذا التوزيع الديموجرافي المعقد سببًا في مشكلات متعدِّدة.
تمكَّن العثمانيُّون من إدارة لبنان كلِّه بشكلٍ عام، عن طريق الوالي الذي يتولَّى أمر الجبل، وتغيَّرت العائلات التي تحكم الجبل تاريخيًّا، وكان آخرها عائلة الشهابيين، التي لم تُحافظ على دينٍ واحد؛ إنما تحوَّل بعض أمرائها من الإسلام إلى الدرزية، ومن الدرزية إلى المارونية[2]، وهكذا في ميوعةٍ عقائديَّةٍ عجيبة، وهذا زاد من تعقيدات العلاقات في جبل لبنان آنذاك، وفي لبنان إلى اليوم.
كان الأمر قد انتهى في قيادة الجبل إلى بشير الشهابي، والذي تولَّى الحكم منذ عام 1788م[3]. رأينا أن بشير الشهابي كان متردِّدًا في ولائه للدولة العثمانية؛ فكان معهم تارة، ومنفردًا بنفسه تارةً أخرى، ومتعاونًا مع أعداء الدولة تارةً ثالثة. كان يُمثِّل البرجماتيَّة في أوضح صورها! عندما ضمَّ محمد علي باشا الشام إلى مصر تعاون معه بشير الشهابي، وصار عاملَه في لبنان[4]. كان إبراهيم باشا (ابن محمد علي باشا) قائد الشام من أنصار القضاء على الإقطاع، والوقوف إلى جانب الفلاحين، وتحسين أوضاعهم، وذلك دون النظر إلى دينهم أو عرقهم. في ظلِّ هذا الأسلوب صادر بشير الشهابي -بناءً على أوامر إبراهيم باشا- أراضي الإقطاعيِّين في جبل لبنان، ومعظمهم من الدروز، وأعطاها للفلاحين، ومعظمهم من النصارى الموارنة، وهذا قَلَبَ الدروز ضدَّ المصريِّين، وجذب إليهم الموارنة[5]. بدأت الاحتكاكات تحدث بين الدروز والموارنة، وزاد من حدَّتها أن الإنجليز كانوا يدعمون الدروز، بينما يدعم الفرنسيون الموارنةَ [6][7]. هذا العامل الأخير يُعتبر من أكبر أسباب الفتنة؛ لأن الإنجليز أعداء الفرنسيين، وكلاهما يسعى لحرب الآخر على أيِّ أرض، وكانت الأرض اللبنانية مرشَّحةً لذلك بقوَّة.
عندما احتلَّ الإنجليز عام 1840م بيروت، وبقيَّة المدن الفلسطينية واللبنانية، وقع بشير الشهابي في الأسر، ثم النفي، وعاد إلى جبل لبنان زعماء الدروز الذين تركوه أيَّام الحكم المصري[8]. وفي ذلك الوقت عيَّن العثمانيُّون أحد الشهابيين التابعين لهم وهو بشير الثالث. كان هذا الأخير قد تحوَّل إلى المارونيَّة، واعتبره الدروز عدوًّا لهم، ولم يتمكَّن هذا القائد الجديد من الحدِّ من الخلافات بين الدروز والموارنة، حتى تطوَّر الأمر إلى حربٍ أهليَّة في عام 1841م. اضطرَّ العثمانيُّون إلى عزل بشير الثالث في ديسمبر 1842م، وتولية حاكم عثماني هو عمر باشا النمساوي (مسلم من أصول نمساويَّة) على جبل لبنان، ولكن هذا لم يوقف الفتنة[9].
تدخلت القوى الأوروبِّيَّة في الأمر، واضطرَّ السلطان عبد المجيد الأول في أول يناير 1843م إلى قبول اقتراح المستشار النمساوي ميترنيخ Metternich[10] بتقسيم جبل لبنان إلى مقاطعتين منفصلتين؛ الأولى شماليَّة يحكمها قائمقام مسيحي (قائمقام أي يقوم مقام الوالي)، والثانية جنوبيَّة يحكمها قائمقام درزي، وعُرف هذا النظام بنظام القائمقاميتين، وكان حاكماه يتبعان والي صيدا العثماني[11][12].
كان هذا التقسيم نظريًّا؛ حيث كانت القرى والمدن مختلطةً في الأغلب، وبالتالي لم تعزل الدروز عن الموارنة، بالإضافة إلى تنامي الصراع الطبقي بين الإقطاعيِّين والفلاحين، فأضاف هذا بعدًا جديدًا للفتنة بخلاف البعد الديني. -أيضًا- كانت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا يُذكِّيان روح العداء بين الفريقين لخلق سببٍ دائمٍ لوجود قوَّاتهما في المنطقة. فشل هذا النظام الجديد في درء الفتنة، وتجدَّد الصراع في 1859م، ثم تصاعد إلى مجازر حامية الوطيس في صيف 1860م، وانتشرت الحرب الأهليَّة خارج الجبل حتى وصلت صيدا، وزحلة، بل ودمشق[13]. قُتِلَ من الموارنة عشرة آلاف، ومن الدروز ألفان[14]. أرسل السلطان عبد المجيد الأول وزير خارجيَّته فؤاد باشا مع فرقةٍ من الجيش العثماني، وقد تمكَّن الوزير من قمع الفتنة، وإعدام عددٍ من المتسبِّبين في الحرب[15]، ولكن هذا لم يكن كافيًا لضمان عدم تكرار الفتنة قريبًا، ولهذا ضغطت الدول العظمى للتدخل في القضيَّة.
تألَّفت في سبتمبر 1860م لجنةٌ دوليَّةٌ من الدول الخمس كالمعتاد في هذه الفترة؛ بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، بالإضافة إلى الدولة العثمانية[16]، وكانت اللقاءات عاصفةً لأن كلَّ دولةٍ تريد حلَّ الأمر بالصورة التي تخدم مصالحها؛ فالإنجليز في صفِّ الدروز، والفرنسيون في صفِّ الموارنة، والدولة العثمانية لا تريد إخراج جبل لبنان من حوزتها. في النهاية، وبعد شهور، اتَّفقت اللجنة على «سلخ» لبنان من السيطرة العثمانية، وذلك عن طريق إنشاء «متصرفيَّة»، أي إمارة شبه مستقلَّة عليها متصرِّفٌ يتولَّى إدارتها، وهذه المتصرفيَّة ستشمل جبل لبنان كلَّه، ولن تدخل فيها المدن اللبنانيَّة الكبرى، كبيروت، وطرابلس، وصيدا، وصور، وجبل عامل، وسوف يتولى قيادة هذه المتصرفيَّة حاكم نصراني عثماني غير لبناني، وسيقوم السلطان عبد المجيد الأول بتعيينه، ولكن بموافقةٍ من الدول الخمس[17]، وكان المتصرِّف الأول هو الأرمني داود باشا[18].
هذا وقد صيغت طريقة إدارة هذا الكيان الجديد في وثيقةٍ عُرِفَت ببروتوكول 1861م، وفيها اتُّفِق على تكوين مجلس إدارة للمتصرفيَّة يساعد المتصرِّف في تسيير أمور الجبل، وكان المجلس يتكوَّن من اثني عشر عضوًا[19]؛ بحيث يكون هناك اثنان من كلِّ طائفةٍ دينيَّة (المارونية، الدروز، السنة، الشيعة، الأرثوذكس، الكاثوليك)، ومع ذلك فقد عُدِّلت هذه التقسيمة في عام 1864م حسب نسبة السكان فصارت أربعة من الموارنة، وثلاثة من الدروز، وثلاثة من الأرثوذكس والكاثوليك معًا، وواحدٍ من كلٍّ من السنة، والشيعة[20]. كانت المتصرفيَّة تتبع الباب العالي مباشرةً دون وسيطٍ من الولاة العثمانيِّين في لبنان أو سوريا، وكان عَلَمُها هو العلم العثماني، وتتعامل بالنقد العثماني كذلك، ممَّا يُشير إلى التبعيَّة للدولة، وإن حرصت الدول الأوروبِّيَّة على استقلال الكيان قدر الإمكان[21].
سيظلُّ هذا الوضع قائمًا إلى عام 1918م، أي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى[22].
كان تكوين هذه المتصرفية صورةً معبِّرةً عن التغلغل الأوروبي في تفاصيل إدارة الدولة العثمانيَّة؛ فلم يكن الأوروبِّيُّون يهتمُّون فقط بالولايات الكبرى، كمصر، وسوريا، واليونان، وصربيا؛ إنما يجتمعون بحدِّهم وحديدهم، لمناقشة أمرٍ يخصُّ فقط ثلث لبنان![23].
[1] ميساس، أكيل: التعريبات الشافية لمريد الجغرافية، مطبعة بولاق، القاهرة، 1834م.صفحة 153.
[2] سويد، ياسين: فرنسا والموارنة ولبنان: تقارير ومراسلات الحملة العسكرية الفرنسية على سوريا (1860-1861)، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1992م.صفحة 256.
[3] جحا، شفيق؛ وعثمان، بهيج؛ والبعلبكي، منير: المُصوَّر في التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، 2017م. صفحة 7/127.
[4] أرسلان، شكيب: مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه 1800 – 1950 بحسب التسلسل الزمني، إشراف وتحرير: يوسف حسين إيبش، توما توفيق عريضه، يوسف قزما خوري، الدار التقدمية، الشوف-لبنان، الطبعة الثانية، 2011م.صفحة 19.
[5] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/161-168.
[6] 54. آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 399.
[7] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 154.
[8] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/161-168.
[9] بازيلي، قسطنطين ميخالوفيتش: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي من الناحيتين السياسية والتاريخية، مراجعة: منذر جابر، ترجمة: يسر جابر، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م. صفحة 375.
[10] Harris, William: Lebanon: A History, 600-2011, Oxford University Press, New York, USA, 2012., p. 151.
[11] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 399.
[12] لوتسكي، 1985 صفحة 155.
[13] Farah, Caesar E.: The Politics of Interventionism in Ottoman Lebanon, 1830-1861, I.B.Tauris, London, UK, 2000., p. 564.
[14] Fawaz, Leila Tarazi: An Occasion for War: Civil Conflict in Lebanon and Damascus in 1860, I.B.Tauris, London, UK, 1995., p. 320.
[15] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/705.
[16] لوتسكي، 1985 صفحة 164.
[17] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/203-206.
[18] Ayvali, Gülsün: An Awkward Case of Conversion on Crete, In: Hazai, György: Archivum Ottomanicum, Harrassowitz Verlag, Wiesbaden, Germany, Volume 26, 2009, vol. 26, p. 239.
[19] لوتسكي، 1985 صفحة 165.
[20] لوتسكي، 1985 الصفحات 165، 166.
[21] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/203-206.
[22] Akarli, Engin Deniz: The Long Peace: Ottoman Lebanon, 1861-1920, University of California Press, California, USA, 1993, p. 174.
[23] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1084- 11088.
التعليقات
إرسال تعليقك